فرديناند ديلسبس من قناة السويس الى قناة بنما ...... الى السجن


كتب له ابنه: "فيم ذهابك إلى بنما يا أبي؟!.. عمَّ تبحث هناك؟!.. عن المال؟!.. عندك ما يكفيك، ويكفينا بعد أن حققت نجاحاً تاريخياً في قناة السويس.
لقد بلغت القمة يا أبي، حتى غدوت أشهر فرنسي في العالم كله، عضواً في البرلمان، ولو طلبت رئاسة الوزارة لسعت إليك!!
.. مشروع (بنما) ضخم وعظيم، ولكنه لن يترك لك ساعة واحدة من الهدوء والراحة.. وأنت يا والدي في سنٍ تحتاج فيه إلى الراحة.. ثم هل تضمن ألا يتخلّى عنك الحظ في بنما مثلما ضحك لك في السويس؟!
أبي.. إذا قررت العمل في هذا المشروع الخيالي وأردت أن أذهب معك، فثق بأنني سأتبعك مهما حدث وأنا راضي النفس، فكل ما أملكه في حياتي، هو ما أعطيتنيه أنت.. ومن حقك أن تسترده عندما أعوضك بالسهر على راحتك"..
* ذلك ما كتبه شارل ديلسبس لأبيه فرديناند ديلسبس
مهندس شق قناة السويس، ليثني والده عن شق قناة أخرى تربط بين المحيطين الهادي والأطلسي.. لكن أباه رفض نصيحته، ولم يملك الابن سوى الرحيل مع أبيه من باريس إلى بنما، ومن بنما إلى السجن؟!..
* كان فرديناند ديلسبس في الثامنة والسبعين من عمره يتفاوض مع شركة أمريكية تسعى إلى مدّ خطٍ حديدي يصل بين ميناء كولون على البحر الكاريبي ومدينة بنما على المحيط الأطلسي، بعد أن انتخبته تلك الشركة رئيساً تنفيذياً مطلقاً لمشروع حفر قناة تربط بين المحيطين في منطقة بنما.. واختيارهم هذا لم يكن اعتباطياً، فمجرد ذكر اسم فرديناند ديلسبس كرئيس للمشروع، يعطي دفعة من الحماس للمساهمين بسبب نجاحه المدوي في شركة قناة السويس.
وقبل فرديناند العرض، رغـم تحذيرات خبراء باستحـالة تنفيذ المشروع.. لكن ديلسبس كتب في دفتر مذكراته:
"إذا كانت الشركة الأمريكية قد نجحت في مدّ الخطوط الحديدية فيما بين الأحراش، وشقّت لها الطريق بين الجبال، وبنت لها الجسور فوق المستنقعات.. رغم الهوام والحشرات والثعابين السامة والتماسيح الفتّاكة.. رغم الأمراض الغامضة المتفشية في المنطقة.. فما الذي يمنع من أن أنجح في حفر القناة التي هي حلم كل ربابنة السفن منذ ماجلاّن.. وكولومبوس.. وفاسكو دي جاما"..
وأرسل ديلسبس أحد مساعديه، وهو الكابتن وايز ليمكث عدة شهور يرسم فيها خرائطه عن طبيعة المنطقة في بنما، وعاد يطفح وجهه بالتفاؤل، ليقول لـ ديلسبس:
ـ المشروع ممكن التنفيذ.. هناك عقبات بالطبع، ولكن يسهل التغلب عليها جميعاً إلا عقبة واحدة.. وحتى هذه، عندي لها الحل الأمثل..
ـ وما تلك العقبة يا وايز؟!
ـ انظر إليها على الخريطة يا أستاذي.. هنا على البحر الكاريبي ميناء كولون، حيث سنبدأ الحفر.. وهنا بلباو، حيث سننتهي، والمشكلة تبدأ من ميناء كولون حتى بلباو، حيث يرتفع المستوى إلى أكثر من 78 متراً.. مستوى المحيط الهادي أعلى بهذا القدر من مستوى الأطلسي..
ـ هذه مشكلة هندسية لم أواجه بمثلها عند حفر قناة السويس.. وما الحل الذي تراه؟! ـ هناك الأهوسة ـ أي السدود الصغيرة ـ سنقيم على طول القناة بعد حفرها ثلاثة أهوسة كبيرة، فلا مناص أمامنا سوى هذا..
ـ لا.. لا.. بل سأحفرها دون الحاجة إلى سدود أو أهوسة.. قد يكلفنا هذا أموالاً أكثر، وربما تضاعفت النفقات ولكنني واثق من النجاح..!!
* وبدأت الشركة في طرح أسهم المشروع الجديد في أسواق المال بعد أن سبقته دعاية مدوية.. وكان المتوقع أن تبلغ قيمة الأسهم 400 مليون فرنك، لكن المساهمين لم يدفعوا أكثر من ثلاثين مليوناً..!!
فيقول الابن لأبيه:
ـ انفض يدك يا أبي من هذا المشروع الذي لا يبشّر بخير.. ـ سنبدأ بما جمعناه يا شارل.. وكن على ثقة أن المساهمين سيدفعون أضعاف أضعاف ما طلبنا..
* ووصل ديلسبس وولده إلى مدينة كولون في أمريكا الوسطى، حيث استُقبِل فيها استقبالاً أعاد إلى ذاكرته احتفالات افتتاح قناة السويس، وأصدر المهندس الشهير أول بياناته لأهالي المنطقة التي سيجري فيها الحفر.. والذي جاء فيه:
"من حقكم أن تحاطوا علماً بكل صغيرة وكبيرة عن المشروع الذي سيجلب الخير لبلادكم وللعالم أجمع.. ستنفق الشركة أكثر من 2000 مليون فرنك على العمليات الخاصة بالحفر والتشغيل، وسيذهب نصف هذا المبلغ إلى جيوب العمال المحليين.. ستقوم الشركة برفع ما لا يقل عن 450 مليون متر مكعب من الصخور، من المجرى المقترح.. وسيصل العمق في بعض الأماكن إلى أكثر من ثمانين متراً.. سنقيم مساكن متنقلة للعمال والمهندسين، وسيصلنا من فرنسا أربعون جراراً بحرياً، ومئات من القوارب والحفارات الآلية، وطلمبات رفع المياه.. بالإضافة إلى القاطرات والعربات والخطوط الحديدية التي ستمد جنباً إلى جنب مع خطوط الحفر".. * لكن ديلسبس لم يكن يعلم بطبيعة الأرض، ولم تكن الدراسات التي قام بها معاونوه كافية، فمنذ أن بدأ العمل انتشرت بين العمال الحمّى الصفراء والملاريا، مما أذهل حتى الأهالي أنفسهم، وهم من اعتادوا على مقاومة تلك الأمراض المتوطنة في مناطقهم.. وكتب ديلسبس في مذكراته:
"كان علينا أن نخترق غابات تسعى فيها الهوام، وتعبث فيها الحميّات فساداً.. بعد أيام قليلة من بداية الحفر، مات عشرون مهندساً من أربعين، جاءوا من فرنسا.. المدير التنفيذي للمشروع سقط هو وزوجته وابنه وابنته وصهره.. أسرة بأكملها أبادتها الحمّى الصفراء.. أما العمال فقد كانوا يتساقطون بالمئات، وأصبح دفنهم مشكلة المشاكل.. ولن أنسى ما حييت، هذا الإعلان الذي نشرته إحدى الصحف المحلية: "يشرّفنا أن نعلن لقرائنا الأعزاء، أننا افتتحنا في أقرب مكان لعمليات الحفر، فرعاً لمحلاتنا.. حيث تجدون توابيت الدفن من كل الأحجام والأسعار.. أسعارنا تبدأ من فرنك إلى مئة".
* ورغم ذلك تقدم الحفر خطوة إثر خطوة على أشلاء العمال والمهندسين، وتبخّر رأس المال، وأوفدت الشركة من يتكلم باسمها مع المهندس ديلسبس الذي طرح عليه سؤالاً عمّا لديه من إجراءات لإصلاح الموقف.. قال:
"سأسافر إلى فرنسا كي أسعى لطرح مجموعة أخرى من الأسهم، ولا تعنيني تلك الحملات الصحفية التي تشنّ عليّ في باريس!!.. فحين يعلم الناس الحقيقة كاملة، وبصراحة ودون مواربة.. فإنهم لن يتخلوا عن المشروع!!".
* وفي باريس نصحوه ألا يذكر في تقريره غير الإيجابيات.. بل ودفعه بعض الانتهازيين إلى الخداع والتمويه.. فقدّم للبرلمان مشروعاً يطرح فيه عدّة ملايين من الأسهم ذات الجوائز لإغراء المساهمين.. لكن المشروع تعثّر في البرلمان..
ومرّةً أخرى نصحه المغامرون بإيجاد صيغة تدفع بالبرلمان لأن يوافق على المشروع... وقد كان... فقد حصل وزير الأشغال على شيك بمبلغ 300 ألف فرنك موقعاً من ديلسبس باعتباره المدير المسؤول عن شركة قناة بنما.. كما دفعت شيكات تجاوزت الملايين من الفرنكات لـ120 عضواً في المجلس، مما دفعهم للموافقة على مشروع الأسهم ذات الجوائز..
زكمت الفضيحة حين أثارها أحد الشرفاء أنوف الفرنسيين جميعاً، وبدأ التحقيق على الفور مع المتهمين الأولين، وهما اللذان وقّعا على شيكات رشوة أعضاء البرلمان..
فرديناند ديلسبس، وولده شارل.. ولما وقف ديلسبس أمام المحقق سأله:
ـ لماذا أعطيت السيد بهيو هذا الشيك؟!
ـ هذه الـ 300 ألف فرنك تمثّل الدفعة الأولى من أصل مليون فرنك مقدمة إليه بوصفه وزيراً للأشغال نظير توقيعه على تقرير يمكّن شركة بنما من الحفر لتنهي مشروعها خلال عامين..
ـ هل كنت تدرك ساعة أعطيت الشيك أنك ترتكب جريمة الرشوة؟!.
ـ لا .. ليست هذه رشوة.. لقد كنت في وضع أشبه بمن يهاجمه في الغابة قاطع طريق، ويضع السكين على رقبته ثم يصيح به: "مالك" أو "حياتك"، لقد أعطيته الشيك أجل.. ولكن تحت التهديد!!
ـ ولماذا لم تلجأ إلى الشرطة حينما هددوك بتخريب المشروع في المجلس؟!
ـ سيدي.. تريد مني أن ألجأ إلى الشرطة؟!.. والشرطة هي التي توسطت بيني وبينهم!! * ورُفعت الحصانة البرلمانية عن النواب الذين قبضوا أموالاً من ديلسبس.. ثم أحيلوا جميعاً إلى محكمة جنايات باريس في يناير عام 1893، وصدرت الأحكام بعد شهر. ـ فرديناند ديلسبس.. خمس سنوات.
ـ شارل ديلسبس.. خمس سنوات.
ـ أندريه بهيو .. السجن خمس سنوات وغرامة قدرها 750 ألف فرنك..
وأحكام أخرى بالسجن تراوحت بين عام وثلاثة أشهر لآخرين..
* فماذا حلّ بعد هذا بشركة قناة بنما؟!.. ماذا عن معداتها، ومخازنها، وقواربها، ومكاتبها في مكان الحفر..؟!
فقد ظلّت لخمس سنوات في مهب عواصف منطقة بنما، وتحت وابل أمطارها الغزيرة إلى أن تلفت، ودُفنت تحت الانهيارات الجبلية.
فاشترتها الحكومة الأمريكية عام 1889 بعد حصولها من حكومة بنما المستقلة الجديدة على امتياز حفر القناة..
وبعد 61 عاماً من العمل الدائب، افتتحت الملاحة لأول مرة في التاريخ عبر قناة بنما.. ودخلت السفينة (ساراتوجا) في خليج (ليمون) في الساعة العاشرة صباحاً، لتخترق القناة على طول 84 كيلومتراً، ولتخرج من خليج بلباو على المحيط الهادئ في السادسة من مساء نفس اليوم من عام 1914.

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Copyright (c) 2013 Soft90.net